أكثر من أربعة أعوام منذ أن بدء السودان رحلته نحو التحول الديموقراطي، وما يزيد عن الأربعة شهور منذ أن اندلعت حرب الخامس عشر من ابريل، بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، في العاصمة القومية وعدة أقاليم أخرى. هذه الحرب التي زادت من سوء الأوضاع الانسانية والمعيشية للسودانيين؛ حيث أصبح ما يزيد عن نصف السودانيين هم الآن في حاجة للمساعدة الإنسانية حسب تقارير الأمم المتحدة.
الحرب في السودان ليست بالأمر الجديد، إذ اكتوى السودان بأطول حروب القارة الإفريقية التي انتهت بانفصال الجنوب واستقلاله كدولة جديدة. لكن الجديد في السودان هو طابع الحروب التي أصبحت تأخذ منحنيات عنيفة ومتطرفة لا تشبه الحروب التقليدية، التي وهي في قمة معاركها، تراعي للقانون الانساني والمعاهدات الدولية. وليس ذلك، ولكن وتيرة العنف وتبادل الجرائم بين الأطراف المتحاربة يتجاوز الحدود بما يعقد من إمكانية الوصول إلى النهاية الطبيعية لكل حل؛ وهي اتفاقيات السلام.
ولعل السمة البارزة لهذا التطرف الجديد هي ظهور الكتائب الجهادية والمليشيات الاسلامية المتطرفة التي أصبحت عنصرا فاعلا في كل الحروب التي تلت إستيلاء الحركة الاسلامية على السلطة عبر انقلاب نفذته خلاياها في الجيش السوداني. هذه الكتائب والمليشيات هي، في الخصائص، تشبه ما أطلق عليه المنظر السياسي الألماني كارل شميت “البارتيزان/المقاتل اللانظامي” والتي من خلال هذا النقاش ستكون المقارنة بينها وبين النهج والسلوكيات التي لجأت إليه الحركة الإسلامية في حربها بالوكالة، عبر الجيش السوداني، ضد قوات الدعم السريع في محاولة للعودة إلى السلطة مرحلة أخرى حتى لو كان ذلك على جماجم جميع الشعب السوداني وأحلامه بالديمقراطية والسلام.
يختلف المقاتل اللانظامي/الجهادي عن نظيره الجندي التقليدي أنه غارق في التطرف والعداوة، حيث أنه لا ينتظر الرحمة أو العدالة من العدو. فمعتقداته المتطرفة اتعدته تماما عن العداوة التقليدية للحروب الحديثة، إذ تجاوز هذا العالم وانحدر نحو آخر أساسه الدعاوة المطلقة التي تزداد من خلال العنف وتتوج بالحروب الأهلية والإبادة.
بالعودة للوراء لفترة ما قبل اندلاع الحرب عن الكتائب الجهادية، إبان مرحلة الورشة الأمنية للاتفاق الاطاري، نجد أن الحركة الإسلامية، عبر كوادرها الأكثر تطرفا أمثال اللواء السابق في جهاز الأمن الاسلامي ورئيس المؤتمر الوطني المحلول في ولاية الخرطوم أنس عمر ووكيل داعش في السوداني محمد علي الجزولي، قد أصدرت تصريحات فيها تهديدات للأمن القومي مثل التهديد بالعنف في حالة لجوء قيادة الجيش السوادني إلى التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي كان يمثل بداية العودة إلى التحول الديموقراطي.
وليس هذا وحده، فقد أكدت عدة مصادر أن الجيش السوداني قد عمد إلى إعادة وتسليح متطرفي المليشيات الإسلامية مثل هيئة العمليات، التي كان حلها هي وحزب المؤتمر الوطني كأحد مطالب ثورة ديسمبر، والدفاع الشعبي. وهو ما يؤكد الصلة اللصيقة لقيادة الجيش الحالية بالحركة الإسلامية رغم إنكارها لذلك. وأكدت هذه الأخبار شواهد تواجد كتيبة البراء بن مالك أكثر كتائب الحركة الإسلامية تطرفا داخل معسكر سلاح المدرعات الذي طالما أكن العداء لقوات الدعم السريع وقاد إسلاميون عبرها محاولتي انقلاب على الحكومة الانتقالية.
منذ الأيام الأولى لحرب ابريل، عمد الجيش السوداني إلى استخدام سلاح الطيران الحربي، نفسه الذي أذاق السودانيين الويلات في النيل الأزرق وإقليم دارفور مما تسبب في فرض حظر طيران في ذلك الإقليم حفاظا على حياة المدنيين هناك وتلى ذلك الحظر حضور أكبر بعثة حفظ سلام للأمم المتحدة في تاريخ البشرية، في مهاجمة معسكرات قوات الدعم السريع كلها بما فيها تلك التي تحوي فقط على المستجدين من الجنود الذين لم يكملوا حتى فترة المحاضرات الأساسية فيما يتعلق بالقانون الحربي والانساني. وهذه لم تكن جريمة حرب من قبل المصادفة، بل خطة مدروسة لتفكيك التماسك وتحويل قوات الدعم السريع إلى هيئة المقاتل اللانظامي، تلك الهيئة التي تبرر للجيش السوداني تمليك مليشيات وكتائب الحركة الإسلامية للأسلحة النوعية والمحرمة دولياً، مستندة على مقولة نابليون: ”لمحاربة اللانظامي لابد أن يتحول المرء إلى اللانظامي“. تلت هذه الجريمة إصدار القائد العام للجيش السوداني عبد الفاتح البرهان مرسوما بموجبه تم إلغاء تبعية الضباط، المعنيين بقيادة المعسكرات وإدارة وتوجيه الجنود، من قوات الدعم السريع وتضمينهم في القوات المسلحة مع تهديدات ضمنية بالعقوبة على الضباط المخالفين وذويهم.
كل هذه الجرائم والخطوات كانت بغرض تبرير تواجد الكتائب الجهادية والمليشيات في العلن وقتالها بمعزل من قيادة الجيش وتغاضيه عن تطرفها وجرائمها ضد المدنيين والخصوم السياسيين ممن أطلقوا عليهم المتمردين وغيرها من الصفات ذات الطابق الجنائي كتمهيد للشعب السوداني على جرائمهم ضد الجميع تحت ذريعة مجاربة التمرد.
ظهرت هذه الجرائم جليا عبر هجمات سلاح الطيران الحربي على البنى التحتية والمدنيين وحملات الاخفاء القسري والاعتقالات التعسفية التي طالت المدنيين من السياسيين الرافضين لاستمرار الحرب وحتى النشطاء كذلك، وقد كشفت هذه الجرائم وبالأدلة، قوات الدعم السريع إبان معركتها في معقل الكتائب الجهادية في سلاح المدرعات حيث نشرت صورا مروعة ومخيفة لحجم التعذيب والمعاملة غير الانسامية التي واجهها المعتقلون لدى هذه الكتائب. ومع كل خسارة جديدة لهذه الكتائب الجهادية، التي أصبحت تعمل تحت تمويه باسم قوات العمل الخاص، تصدر قيادة الجيش السوداني أوامر عبرها يتم منح المزيد من الصلاحيات والقوة لهذه الكتائب. عليه فإن استمرار هذه الحرب يمثل العامل الأساسي لضمان حصول هذه الكتائب على الصلاحيات بما يسمح للحركة الاسلامية بالحصول على القدرة الكافية للعودة للسلطة عبر انقلاب عسكري لخلاياها في الجيش السوداني. وهو ما يفسر سبب تعنت ورفض هذه الكتائب والحركة الاسلامية لأي حلول عبر المفاوضات أو أي حلول من شأنها إيقاف الحرب حتى لو كانت مجرد هدنة انسانية، حيث عمدت هذه الكتائب وسلاح الطيران الحربي إلى خرق كل الهدن واتفاقيات وقف اطلاق النار منذ بدء هذه الحرب.
الخلاصة، كل هذه الجرائم والشواهد الواضحة تؤكد ما ظل الجميع، وأولهم قوات الدعم السريع، يرددونه ويتخوفون منه وهو التحالف غير المعلن بين قيادة الجيش السوداني والحركة الاسلامية. الآن وبعد أن أصبح الأمر جليا للجميع، تعمد الحركة الاسلامية إلى استمرار هذه الحرب عبر خلاياها التي تم منحها الصلاحيات حتى على مستوى الحكومة بالأخص في وزارة الخارجية، التي أصبحت تعمل في حكم الأمانة العامة للحركة الاسلامية.
لطالما أوضح كارل شميت وغيره من المحللين السياسيين بخطورة المليشيات والمقاتلين اللانظامين على الدول وتسببهم في الحروب الأهلية وتفكيك الدول في نهاية المطاف. وتكمن الخطورة في صعوبة دمج هذه المليشيات في الجيوش النظامية للدول واستحالة تسريح غير الأكفاء منها، وهم الأغلبية، وإعادة دمجهم في الحياة المدنية.
عليه، فإن الوضع في السودان انزلق إلى ما يتجاوز اتفاقية دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني إلى الحاجة القصوى في تكوين جيش جديد لا وجود فيه للكتائب الجهادية أو المليشيات المؤدلجة، هذا أو طوفان الحروب الأهلية هكذا حتى فناء الدولة السودانية ومن ثم نقل هذا الإرهاب والتطرف إلى دول الجوار والعالم أجمع.
M.E