فشلت الحكومة السودانية في سداد ما قيمته حوالى 40.7 مليار جنيه سوداني هي جملة صافي رواتب العاملين في القطاع العام لعدد 859 ألف موظف وعامل بالمركز والولايات منذ اندلاع الحرب.
وعجزت وزارة المالية عن دفع رواتب العاملين في القطاع العام ولم تستطع إدارة الاقتصاد خلال فترة الحرب مواجهة هذه الأزمة التي تؤرق مئات آلاف السودانيين.
وألقى توقف الرواتب بظلال سالبة على قطاع عريض من الشعب وأدخل البعض تحت دائرة الفقر، بعد أن أصبحوا عاطلين عن العمل، ما أفرز سلبيات مجتمعية خطيرة في أوساط المجتمع، ودفع الكثيرين إلى البحث الشاق عن مهن بديلة وسط جحيم الحرب.
يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم إبراهيم أحمد أونور، لـ”العربي الجديد”، إن وزارة المالية لم تفلح وتتحوط للصدمة منذ اندلاع الحرب في إبريل/ نيسان الماضي، الأمر الذي يشير إلى عدم قدرتها على احتواء الأزمة المالية مع تدهور الاقتصاد السوداني طيلة هذه الفترة منذ اندلاع الحرب في 15 إبريل/نيسان الماضي، نتيجة لغياب أي رؤية لتخفيف تداعيات الحرب على معاش الناس.
كما أنها لم تتبن سياسات بديلة تستوعب الواقع الجديد، ولكن للأسف طيلة الفترة الماضية كان هناك غياب تامّ لوزارة المالية من المشهد الاقتصادي حتى وصل الأمر إلى إعلان وزارة المالية عن عجز الوزارة دفع رواتب العاملين منذ اندلاع الحرب، حسب أونور.
ويرى أهمية إصدار سندات حكومية لفترة استحقاق سنة من تاريخ إصدارها وإلزام جميع البنوك التجارية بشراء كميات منها حسب تقديرات الوزارة. كما طالب أونور “بفتح استيراد السلع الأساسية والاستراتيجية من أدوية وأغذية ضرورية على حساب عقود دفع عاجل بضمان الذهب من دول تربطنا بها اتفاقيات تجارية لتغطية جزء أو كل رواتب القطاع العام، على الأقل لفترة ستة أشهر قادمة”.
ولكن المحلل الاقتصادي يوسف سراج الدين يقول لـ”العربي الجديد” إنّ عجز الدولة عن الوفاء برواتب العاملين شكّل أزمة كبيرة تأثرت بها سلبياً مجموعات كبيرة من الموظفين وأسرهم.
والشاهد أن الحرب تسببت في نزوح الملايين الفارين من الخرطوم، صوب الولايات، إذ تواجه شريحة واسعة من المجتمع أزمة مالية لعدم صرف الرواتب بسبب اختلال النظام المالي جراء خروج البنك المركزي، عن نظام المقاصة المتبع إلكترونياً، حسب سراج الدين.
كما لم تتمكن المصارف الولائية من الوفاء بالرواتب لجملة أسباب منها اختلال النظام الإلكتروني مع المركزي، إلى جانب شح السيولة لدى المصارف الولائية، وفق سراج الدين. ويضيف: لم تفلح جهود وزارة المالية في فك الأزمة وهنالك مخاطر تكتنف اللجوء لطباعة العملة من الخارج في ظل الحرب الدائرة وغياب المركز الإداري للدولة.
ولكن المدير العام للإدارة العامة للشؤون المالية والإدارية بوزارة المالية صلاح هجام، قال في رسالة لوسائل الإعلام في السابع عشر من يوليو/ تموز الجاري إنه تمت مناقشته وتداول أمر الرواتب في اجتماعات مجلس الوزراء و اللجنة العليا للطوارئ، إلا أن هناك مشكلات مالية وتقنية حالت دون ذلك (بسبب تعطل الأنظمة وشح السيولة) وهذه المشكلات أثرت سلباً على النشاط الاقتصادي وأفقدت الخزانة العامة أكثر من 90% من الإيرادات بالخرطوم.
وأضاف: “أما بالنسبة للإيرادات المتحصلة فهي ضعيفة جداً، ويتم صرفها وفقاً لتوجهات اللجنة العليا للطوارئ التي أمرت بسداد رواتب القوات النظامية المرابطة وتشوين المواد الغذائية لهذه القوات إضافة إلى توفير الأدوية والعلاجات للمرضى وخاصة المنقذة للحياة (غسيل الكلى والسرطان والقلب) وتوفير تكاليف العتالة والتخزين، إلى جانب توفير قطع الغيار والصيانة ومواد تنقية مياه الشرب في محطات الخرطوم والمدن الرئيسية الأخرى.
وتابع: “كما تعلمون فإن الهيئات والشركات الحكومية هي وحدات ذات تمويل ذاتي وعادة يتم صرف رواتبها من مواردها الذاتية، وبالرغم من ذلك فقد تم توجيهها بصرف سلفيات على الرواتب بنسبة 60% للموظفين و100% للعمال، وذلك لأنهم مداومون على العمل في فروعهم بالولايات، إضافة إلى تشجيعهم لرفع جهد التحصيل لتوفير موارد مالية للخزانة العامة، لكي تساهم في الصرف على الأولويات المحددة بواسطة اللجنة العليا للطوارئ، وما زالت الجهود مستمرة لمعالجة أمر الرواتب”.
بعد مرور نحو 3 أشهر على اندلاع الحرب، تكبّد السودان خسائر فادحة بلغت، حسب تقديرات مراقبين، أكثر من إجمالي الناتج المحلي للبلاد خلال عام بأكمله.
ويعيش السودانيون أوضاعاً اقتصادية ومعيشية قاسية منذ بدء النزاع بين الجيش الذي يقوده عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، منذ 15 إبريل الماضي.
ووفق تقديرات غير رسمية فإن تكلفة الحرب بلغت نحو نصف مليار دولار يومياً في المتوسط، أي 60 مليار دولار خلال 3 أشهر هي عمر الحرب حتى الآن، وأكدت البيانات أن الخسائر فادحة جداً ولا تقدّر في بعض المجالات.
وكان رئيس اللجنة الاقتصادية في حزب الأمة القومي صديق الصادق المهدي قد قدّر في وقت سابق الإنفاق العسكري اليومي وخسائر الحرب الدائرة بنحو نصف مليار دولار يومياً. وحذر من نذر حرب أهلية، وتزايُد الفجوة الغذائية جراء الحرب الدائرة في البلاد بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وأجبرت هذه الظروف العصيبة الكثير من الموظفين على امتهان مهن بديلة لا تتناسب مع خبراتهم العلمية والعملية. ويقول المهندس عمار محمد صالح الذي كان يعمل فى شركة مقاولات وفقد وظيفته بعد تدمير الشركة، إنه بعد مرور شهرين نفذ كل ما ادخره من مال وأصبح بلا عمل فاضطر إلى بعض الأعمال الهامشية مثل بيع الخضروات في الأسواق الطرفية البعيدة عن الحرب رغم صعوبة التنقل.
أما الطبيب إسماعيل بشير فيقول إنه حاول نقل عيادته إلى منزله، لكنه عجز عن ذلك بسبب حرق وتكسير كل معداتها، وذلك في أم درمان، فاضطر إلى فتح محل تجارى صغير فى منزله بمحلية أم بدة فى أم درمان لبيع بعض المواد التموينية. ويضيف إسماعيل: “هذا أفضل من البطالة” لكنه أكد أنه ظل يمارس مهنته أمام منزله و”تقديم الوصفات الطبية لما تبقى من الجيران والمعارف”.
ويؤكد أحمد الشيخ الذي كان معلماً في إحدى المدارس بالخرطوم في اتصال هاتفي مع “العربي الجديد” أنه بدأ رحلة البحث عن عمل في ولاية الجزيرة التي نزح إليها ولم يحالفه الحظ فاستأجر درداقة وهي عربة دفع يدوية صغيرة للتجول بها وبيع الفاكهة في الأحياء القريبة من سكنه، لافتاً إلى أنّه لا خيار آخر يمكنه اللجوء إليه لكن الوضع بالنسبة له أفضل من آخرين.