في مقابلة حصرية مع وكالة رويترز، عاد أحمد هارون، القيادي البارز في النظام السابق والمطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، إلى المشهد السياسي عبر طرح رؤية لإعادة تموضع الإسلاميين في السودان. وتضمنت تصريحاته دعوة لإبقاء الجيش في موقع السيادة حتى بعد انتهاء الحرب، وتشكيل واجهة مدنية ذات طابع إسلامي عبر انتخابات مستقبلية، في مشهد يعيد إلى الأذهان نموذج الحكم الذي ساد في عهد عمر البشير.
هارون، الذي تحدث من مكان غير معلن، اعتبر أن كوادر الإسلاميين أدت دورًا رئيسيًا في المعارك الأخيرة، متحدثًا عن أعداد ضخمة من المجندين والمدربين ضمن صفوف الجيش، في محاولة لتسويق نفوذهم المتجدد وسط حالة الفوضى التي خلفتها الحرب المستمرة منذ أبريل 2023.
التصريحات التي أطلقها هارون تعكس – بحسب مراقبين – محاولة واضحة لإعادة إنتاج النظام السلطوي السابق بواجهة مدنية، مستندًا إلى حالة الانقسام والانهيار المؤسساتي. ودعا إلى صيغة حكم “مدنية-عسكرية” تضمن بقاء الجنرالات في السلطة، زاعمًا أن ذلك يحمي السودان من الأطماع الأجنبية. إلا أن هذه الطروحات تُعد، وفق محللين، امتدادًا للفكر العسكري الذي فشل مرتين في الحصول على شرعية شعبية: الأولى عبر ثورة ديسمبر 2018، والثانية مع اندلاع الحرب في أبريل 2023. ففي كلا المرتين، رفض الشارع السوداني هيمنة الإسلاميين على الدولة ومؤسساتها، مطالبًا بحكم مدني شفاف ومساءلة قانونية.
اعتُبرت تصريحات أحمد هارون، التي دعا فيها إلى إجراء انتخابات وإبقاء الجيش في موقع الهيمنة بعد الحرب، امتدادًا واضحًا للنموذج العسكري الذي ساد في عهد النظام السابق. فالدعوة إلى انتخابات في ظل انهيار اقتصادي حاد، ونزوح أكثر من ثمانية ملايين شخص، وهيمنة رموز النظام البائد على وسائل الإعلام الرسمي، لا تعكس توجهاً حقيقياً نحو ديمقراطية شاملة، بل تُمهّد لعملية سياسية مغلقة، تحكمها البنادق ويغيب عنها مبدأ التنافس الحر.
ما طُرح من مزاعم حول نجاح الإسلاميين عسكرياً يتناقض بوضوح مع الواقع على الأرض؛ إذ إن الجيش السوداني يعتمد بشكل متزايد على دعم عسكري خارجي، يتمثل في الطائرات المسيّرة القادمة من طهران، والمدفعية المصرية، إلى جانب استخدام القصف العشوائي ضد المناطق المدنية، وهو ما يُضعف قدرته على فرض سيطرة مستدامة في الميدان. في المقابل، نجحت قوات الدعم السريع في إنشاء قواعد دعم مجتمعي، عبر لجان شعبية في دارفور وكردفان، وهو ما شكل تحدياً فعلياً أمام أي تقدم ميداني لقوات الجيش في تلك المناطق.
وفي الوقت الذي يحاول فيه هارون تصوير مطالب الحكم المدني بأنها مستوردة من الغرب، يتغافل عن أن ثورة ديسمبر 2018 كانت حركة شعبية وطنية نابعة من الداخل، عبّرت عن تطلعات السودانيين لبناء نظام مدني عادل ومستقل، يشمل إصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى رأسها القضاء والأجهزة الأمنية. هذا الخطاب يهدف إلى التشويه والتقليل من أهمية التضحيات الشعبية، وخلق انطباع بأن المشروع الإسلامي لا يزال يتمتع بقبول واسع، رغم أنه رُفض شعبيًا في محطات مفصلية.
كما أن ما لم يقله هارون في تصريحاته يوازي ما قاله. فقد تجاهل عمداً العلاقات السرية التي نسجها معسكره مع قوى إقليمية، مثل إيران وتركيا وقطر، في إطار البحث عن التمويل والسلاح والدعم الإعلامي، بينما قلل من أهمية المساعدات الإنسانية التي قدّمتها أطراف أخرى كالإمارات، والتي أسهمت في تخفيف معاناة مئات الآلاف من النازحين، خاصة في شرق السودان. كذلك أغفل تماماً المبادرات السياسية التي انطلقت من بعض الفصائل المسلحة ووساطات الاتحاد الأفريقي، والتي حاولت الدفع باتجاه حل سلمي شامل.
إن استمرار عسكرة الحياة السياسية وإعادة تشكيل تشكيلات مسلحة مشابهة للدفاع الشعبي أو ميليشيات ذات طابع ديني لا يفتح الطريق أمام سلام حقيقي، بل يعمّق الانقسام الوطني، ويهدد بانفجار جديد في المستقبل. والحل الجذري يكمن في تفكيك الهياكل الموازية للسلطة، والاعتراف بواقع القوة على الأرض عبر دمج جميع الأطراف، بما في ذلك قوات الدعم السريع، في جيش وطني موحد يخضع لسلطة مدنية منتخبة. كما أن وقف إطلاق النار بشكل كامل والسماح بمرور المساعدات الإنسانية دون عراقيل أو تدخلات عسكرية هو الخطوة الأولى نحو الاستقرار. إن تشكيل مجلس مدني انتقالي يمثل الأقاليم ولجان المقاومة والنقابات المهنية هو المسار الوحيد الممكن لإنقاذ السودان من استمرار الحرب، والحيلولة دون عودة الشخصيات التي لطالما ارتبط اسمها بالقمع والدمار إلى صدارة المشهد.