في خطوة تُعد انتصارًا تاريخيًا للعدالة الدولية، أدانت هيئة محلفين فيدرالية بمدينة نيويورك بنك BNP Paribas الفرنسي لمسؤوليته عن تمويل نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير خلال فترة الإبادة الجماعية في إقليم دارفور مطلع الألفية، وحكمت المحكمة بتعويضات تجاوزت 20 مليون دولار لثلاثة من اللاجئين السودانيين الذين نجوا من تلك الجرائم.
رغم العقوبات الدولية المفروضة على السودان منذ عام 1997، تمكّن نظام البشير من الوصول إلى النظام المالي العالمي بفضل شبكة معقدة من المعاملات المصرفية التي شارك فيها بنك BNP Paribas.
ووفقًا لوثائق المحكمة، أتاح البنك للنظام السوداني عبر فروعه في جنيف وباريس الوصول إلى مليارات الدولارات الأمريكية، في خرق واضح للعقوبات الأمريكية والأوروبية التي كانت تهدف إلى منع تمويل العمليات العسكرية في دارفور.
وقد مثّل هذا الالتفاف المالي أحد العوامل التي مكّنت حكومة البشير من تمويل حملاتها العسكرية ضد المدنيين في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، والتي أسفرت عن مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين.
بعد محاكمة استمرت خمسة أسابيع أمام القاضي ألفين هيلرستاين في المحكمة الفيدرالية للمنطقة الجنوبية من نيويورك، خلصت هيئة المحلفين إلى أن البنك كان “السبب المباشر والكافي” للأضرار التي لحقت بالضحايا، معتبرة أن معاملاته المالية ساهمت فعليًا في استمرار الجرائم ضد الإنسانية.
قضت المحكمة بتعويضات بلغت:
- 6.4 ملايين دولار للمدعي عبدالقاسم عبدالله
- 7.3 ملايين دولار للمدعية انتصار عثمان كاشف
- 6.75 ملايين دولار للمدعي ترجمان آدم
ورغم أن هذه المبالغ تُعد رمزية أمام حجم الكارثة، فإنها تمثل اعترافًا قانونيًا غير مسبوق بمسؤولية مؤسسة مالية دولية عن تمويل جرائم إبادة جماعية.
قال المحامي بوبي دي تشيللو من مكتب DiCello Levitt:
“هذا الحكم انتصار للعدالة. المؤسسات المالية لا يمكن أن تغض الطرف عن عواقب أفعالها. موكلونا فقدوا كل شيء في حرب غذّاها الدولار الأمريكي، والبنك كان أحد ركائزها المالية.”
أما المحامي الدولي مايكل هاوسفيلد، مؤسس مكتب Hausfeld، فصرّح:
“تُعيد هذه القضية إحياء مبادئ محاكمات نورمبرغ. لقد صمد الضحايا لعقود، واليوم يجنون أولى ثمار العدالة.”
وأضافت كاثرين لي بويد من مكتب Hecht Partners:
“الرسالة واضحة: المصارف ليست فوق القانون. من يمكّن الأنظمة القمعية من التمويل، يتحمّل مسؤولية الفظائع التي تُرتكب.”
القضية التي تحمل اسم Kashef وآخرين ضد BNP Paribas رُفعت باسم مجموعة من اللاجئين السودانيين المقيمين في الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تُمهّد الطريق أمام آلاف الدعاوى المشابهة ضد مؤسسات مالية أخرى يُشتبه في تعاملها مع أنظمة قمعية في إفريقيا والشرق الأوسط.
ويرى خبراء القانون الدولي أن هذا الحكم يكرّس مبدأ “المساءلة العابرة للحدود”، مؤكدين أن “المال يمكن أن يكون سلاحًا فتاكًا مثل الرصاص”، وأن دعم الأنظمة المنتهكة لحقوق الإنسان لم يعد يمرّ دون عواقب قانونية.
يُذكر أن بنك BNP Paribas كان قد اعترف عام 2014 بانتهاكه للعقوبات الأمريكية المفروضة على السودان وإيران وكوبا، ودفع حينها غرامة قياسية بلغت 8.9 مليارات دولار لتسوية القضية الجنائية.
لكن الحكم الصادر في أكتوبر 2025 يُعد أول إدانة مدنية مباشرة تربط البنك بتمويل جرائم إبادة جماعية، لا مجرد خرق للعقوبات الاقتصادية.
يمثل هذا القرار علامة فارقة في مسار العدالة الدولية، إذ أنه بعد أكثر من عقدين من المأساة، بدأ ضحايا الإبادة في السودان يسمعون كلمة طال انتظارها: الاعتراف.
وربما يُفتح بهذا الحكم الباب أمام مرحلة جديدة من المحاسبة الدولية، لا تقتصر على منفّذي الجرائم، بل تمتد إلى من موّلهم وساعدهم على استمرار آلة الحرب.