من كان يظن أن السودان ، الذي خرج من ظلمة العزلة الدولية ورفعت عنه صفة “الدولة الراعية للإرهاب” بعد سنوات من الجهد الدبلوماسي الشاق، سيجد نفسه اليوم مهدد بالعودة إلى ذات الدائرة بفعل ذات الوجوه التي أحرقته من قبل؟
في الأسابيع الأخيرة، عادت الأخبار تتحدث عن استضافة قادة من حركة حماس في السودان، وعن اجتماعات سرية واتصالات بين بقايا نظام المؤتمر الوطني وبعض قيادات الحركة، وكأن الزمن عاد إلى مطلع الألفية حين كان السودان يعد“المقر الآمن” لكل جماعة تتقن التسلل عبر الدين إلى قلب السياسة والسلاح.
في التسعينيات، فتح نظام عمر البشير وذراعه الأمني الممسك بالمفاصل _المؤتمر الوطني_الأبواب لحركة حماس، ووفر لها المأوى والمعسكرات والدعم اللوجستي و الهويات ايضاً فالسودان قدم الجوازات لقادة حماس، بل وسمح بتأسيس شبكات مالية وتجارية تمتد من الخرطوم إلى إسطنبول ودمشق وطهران.
كانت تلك الحقبة، في نظر الإسلاميين، “نصرة للمستضعفين”، لكنها في نظر العالم تجسيد عملي لتصدير الإرهاب تحت لافتة المقاومة.
لم تخرج الخرطوم من تلك الدائرة إلا بشق الأنفس.
دفعت ثمناً باهظاً من سمعتها وسيادتها واقتصادها، حتى رُفع اسم السودان من قائمة الإرهاب عام 2020 بعد مفاوضات طويلة مع واشنطن وتنازلات سياسية مؤلمة.
لكن ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فمع اشتعال الحرب في أبريل 2023، بدأ الإسلاميون يتحسسون طريق العودة، مستخدمين خطاب “المؤامرة” و”الكرامة الوطنية”، ليعيدوا إنتاج مشهدهم القديم بثياب جديدة.
اليوم، حين نرى وجوهاً من نظام البشير تُبرر أفعال حماس، وتصفها ب”المقاومة المباركة”، وحين يتحدث بعض المسؤولين عن “واجب التضامن مع الحركة” و الوقفات التضامنية كأننا لم نتعلم شيئاً من التاريخ، ندرك أن السودان يدفع عمداً نحو الهاوية ذاتها.
الخطورة لا تكمن فقط في الموقف السياسي، بل في الرمزية: فاستضافة قادة حماس، ولو في حدود اللقاءات السرية ، هي إعلان غير مكتوب بأن الخرطوم عادت إلى منطق الأيديولوجيا على حساب الدولة.
وهو ذات المنطق الذي أشعل الحرب الجارية اليوم، حين تحولت مؤسسات الجيش إلى ذراعٍ حزبي، وحين فُسرت السلطة باعتبارها غنيمة إلهية وليست مسؤولية وطنية.
لا يمكن فصل هذا المشهد عن عودة الخطاب الإسلاموي داخل أجهزة الدولة، ولا عن التحريض الممنهج ضد قبائل بعينها ، ولا عن الحنين إلى حكم الإنقاذ الذي يطلّ كل يوم عبر الفضائيات والمنصات الرقمية.
فهؤلاء الذين يُنادون اليوم بنصرة حماس هم ذاتهم الذين أشعلوا الحرب ضد الشعب السوداني، الذين أطلقوا يد المليشيات، ودفنوا الحقيقة تحت ركام الدعاية، وها هم اليوم يحاولون غسل وجوههم بدموع فلسطين.
لكن الشعب السوداني أذكى من أن يُخدع مرة أخرى.
يعرف أن الإسلاميين لا يتضامنون مع الفلسطينيين حباً فيهم، بل بحثاً عن شرعية مفقودة.
يعرف أن ما يسمونه “مقاومة” هو في الحقيقة تجارة سياسية تُستخدم لاستعادة سلطةٍ سقطت ولن تعود إلا على جثث الأبرياء.
إن العودة إلى حضن حماس ليست مجرد حركة رمزية، بل إشارة إلى عودة السودان إلى مربع التورط في الصراعات الإقليمية، وإلى أن من أشعلوا الحرب يحاولون الآن جرّ البلاد مجدداً إلى محور الإسلام السياسي الذي تخلى عنه العالم منذ سنوات.
هذه ليست قضية فلسطينية، بل قضية سودانية بامتياز.
قضية وطنٍ يُراد له أن يُستَخدم من جديد كقاعدة لتمرير الأجندات العابرة للحدود، تماماً كما كان في عهد البشير.
حين تم رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، كان الأمل أن يُفتح الباب لعصرٍ جديد من الشفافية، وأن تُعاد صياغة الدولة على أسس المواطنة لا العقيدة.
لكنّ عودة الإسلاميين إلى المشهد، ومحاولاتهم توظيف مأساة غزة كغطاء سياسي، تعني أن الخطر الحقيقي لم يكن الحرب وحدها، بل عودة العقول التي صنعتها.
إن المجتمع الدولي مدعو اليوم إلى أن ينتبه بجدية إلى ما يحدث في الخرطوم.
فنقلاً عن ناشطين سياسيين يتحدثون عن لقاءات حماس مع مسؤولين سودانيين سابقين ليست مجرد “أخبار عابرة”، بل مؤشرات على استعادة الشبكات القديمة التي كانت تموّل وتدرب وتسلح.
وإذا لم يُكبح هذا التوجه الآن، فإن السودان سيجد نفسه مجدداً في ذات القائمة السوداء التي خرج منها بجهدٍ مضنٍ.
الشعب السوداني لا يريد أن يُختزل في صورة بلدٍ يموّل الإرهاب، ولا أن يُربط اسمه بالحروب بالوكالة، ولا أن تتحول الخرطوم إلى ساحة لتصفية حسابات الشرق الأوسط.
إنه يريد أن يعيش بسلام، أن يبني وطناً لا يتغذى على الكراهية ولا يُدار بخطاب ديني متعفن.
وإن كان لا بد من التضامن، فليكن تضامناً مع شعب السودان اولاً ، مع أطفاله الذين يموتون في الفاشر، ومع أمهاته اللواتي يبحثن عن لقمة في كادوقلي، ومع مدنه التي تُقصف باسم الوطنية بينما يُعقد في الظلال تحالف جديد مع الإرهاب.
الإسلاميون لم يتغيروا، فقط بدلوا شعاراتهم.
وكل من يظن أن دعمهم لحماس موقف إنساني، فعليه أن يتذكر أن الذين أحرقوا القرى في دارفور و ذبحوا الناس بقانون الوجوه الغريبه و أكلوا أحشاء الضحايا هم أنفسهم من يرفعون اليوم رايات المقاومة.
هي نفس اليد التي ترفع السلاح باسم الدين وتغسل به الخطيئة السياسية.
لقد آن الأوان لأن يتحدث العالم بصراحة عن عودة الإرهاب إلى الخرطوم، وعن الدور الخطير الذي يلعبه بقايا نظام الإنقاذ في تغذية هذه الحرب، وعن أن رفع السودان من قائمة الإرهاب لا يجب أن يكون شيكاً على بياض.
فالشعوب لا تُحرر بالفتاوى، بل بالعدالة.
ولا تُبنى الدول بالدموع، بل بالحقيقة.
والذين يتسترون وراء حماس ليغسلوا تاريخهم الدموي، لن ينجحوا إلا في تلويث القضية الفلسطينية نفسها.