تواصل الجدل الاقتصادي بين الكاتب الصحفي عثمان ميرغني ووزير المالية الأسبق إبراهيم البدوي حول مستقبل الاقتصاد السوداني بعد الحرب، حيث قدّم ميرغني ردًا تفصيليًا جديدًا شكك فيه في دقة البيانات التي استند إليها البدوي، معتبرًا أنها تقوم على فرضيات غير واقعية ولا يمكن الاعتماد عليها لتقدير مسار التعافي الاقتصادي.
البدوي كان قد قدّر أن السودان سيحتاج إلى 11 عامًا من النمو المتواصل لاستعادة مستوى الناتج المحلي الإجمالي لما قبل الحرب، مستندًا إلى ما وصفه بـ”قانون السبعين” لتحديد فترات النمو. لكن ميرغني، في مقاله الجديد، رأى أن المنهج الذي استخدمه البدوي غير مناسب للحالة السودانية، مشيرًا إلى أن البيانات الاقتصادية المتوفرة تفتقر إلى الموثوقية والتدقيق، وأن البلاد تعاني من غياب شبه كامل لمنظومة معلومات اقتصادية دقيقة.
وأوضح ميرغني أن المشكلة لا تتعلق فقط بضعف البيانات الرسمية، بل أيضًا بـ غياب ثقافة استخدام المعلومات في صنع القرار، مبينًا أن السلطات في السودان ما زالت تعتمد على أرقام قديمة ومتضاربة، تُستخدم دون مراجعة أو تحديث. واستشهد بتقدير عدد السكان الذي استخدمه البدوي في حساباته – والمقدر بنحو 50 مليون نسمة – معتبرًا أنه رقم تقديري يتراوح فعليًا بين 30 و50 مليونًا حسب الجهة، مما يجعله غير صالح كأداة تحليلية دقيقة.
انتقد ميرغني استخدام البدوي لما يُعرف بـ “قانون السبعين”، موضحًا أنه صحيح من الناحية الرياضية لكنه لا يعكس واقع الاقتصاد السوداني المعقد. واعتبر أن تطبيق هذا القانون على اقتصاد يعاني من اختلالات هيكلية، وفساد مؤسسي، وضعف في الإنتاج الحقيقي، يُعد تبسيطًا مخلًا، لأن المعادلة قد تُستخدم على أي رقم مجرد دون أن تعبّر عن ديناميكيات الاقتصاد أو التحديات الفعلية التي تواجهه.
جدد ميرغني خلافه مع البدوي بشأن فكرة “خط الصفر الوطني”، مؤكّدًا أن الاقتصاد السوداني قبل الحرب لا يمكن اعتباره مرجعية صالحة لأنه لم يكن اقتصادًا مؤسسًا على قواعد حقيقية. ودعا بدلًا من ذلك إلى اعتماد نقطة انطلاق جديدة تعتمد على الإمكانات الواقعية للسودان – المادية والبشرية والجغرافية – بعيدًا عن الأرقام النظرية التي تصدرها مؤسسات دولية دون شفافية في مصادرها.
وللتدليل على غياب الموثوقية في الإحصاءات الرسمية، طرح ميرغني تساؤلات حول حجم استهلاك القمح، وكميات الذهب المصدّرة، وواردات الأدوية، مشيرًا إلى أن الأرقام المعلنة لا تعكس الواقع. وأوضح أن البيانات الرسمية تشير إلى صادرات ذهب لا تتجاوز 25 طنًا سنويًا، بينما تُظهر سجلات الدول المستوردة أن الكميات الفعلية تتجاوز ثلاثة أضعاف ذلك، ما يكشف – بحسب قوله – عن خلل عميق في منظومة جمع البيانات وضعف الشفافية في المؤسسات الرسمية.
اختتم ميرغني مقاله بالتأكيد على أن تقديرات البدوي، رغم ما تتضمنه من اجتهادات علمية، لا يمكن أن تشكل أساسًا لبناء رؤية اقتصادية مستقبلية في غياب منظومة معلومات دقيقة. وشدد على ضرورة إعادة تعريف الأولويات الاقتصادية وبناء قاعدة بيانات وطنية موثوقة تكون أساسًا لأي مشروع تنموي أو إصلاحي.
وأكد ميرغني أن السودان بحاجة إلى بناء دولة حديثة من الأساس، لا إلى إعادة إعمار نموذج اقتصادي هش لم يكن موجودًا فعليًا، مشددًا على أن المعرفة والمعلومة يجب أن تكون محور صناعة القرار في المرحلة المقبلة لضمان التعافي الحقيقي والنهضة المستدامة.