في شهادة ميدانية نادرة، كشف أحد جنود الجيش السوداني الفارين من مدينة الفاشر إلى نيالا عن واقع مأساوي يعيشه المقاتلون والمدنيون على حد سواء داخل المدينة المحاصرة، مؤكدًا أن الانهيار الإنساني، لا العسكري، كان السبب وراء مغادرته وعدد من زملائه مواقعهم.
الجندي الذي عرّف نفسه باسم “أبو أمير” قال إن الجوع والعطش ونقص الدواء جعلت البقاء في المدينة “مستحيلًا”، مشيرًا إلى أن “الموت في المعركة أصبح أهون من الموت جوعًا أو عطشًا”.
تُعد الفاشر اليوم آخر نقطة تمركز للجيش السوداني في إقليم دارفور، بعد سقوط حاميات نيالا وزالنجي والجنينة والضعين خلال عام 2023 بيد قوات الدعم السريع.
وبحسب شهادة الجندي، فإن وحدته، التابعة للفرقة السادسة عشرة مشاة، انتقلت إلى الفاشر في نوفمبر 2023 عقب سقوط مقرها في نيالا، واتخذت من كتيبة الاحتياط مركزًا رئيسيًا للعمليات.
وأشار إلى أن الجيش نشر قواته على المحورين الجنوبي والغربي للمدينة، خاصة في مناطق شالا ومطار الفاشر، وأنهم خاضوا أكثر من 220 مواجهة عسكرية في محاولة لوقف تقدم الدعم السريع.
روى “أبو أمير” أن الخدمة في نقاط الارتكاز كانت تستمر لثلاثة أيام متواصلة دون راحة أو طعام كافي، موضحًا أن كل جندي كان يحصل على وجبة واحدة فقط في اليوم.
ومع تدمير معظم مصادر المياه بفعل القصف، اضطر الجنود إلى شرب مياه المستنقعات والبحيرات داخل المدينة، ما أدى إلى انتشار أمراض معوية وجلدية بينهم.
وأضاف أن غياب الإمدادات الطبية جعل معالجة الجرحى “شبه مستحيلة”، وأن بعض الجنود “نزفوا حتى الموت بسبب غياب أدوات الإسعاف أو الجراحة”.
ولم يكن الغذاء أفضل حالًا؛ فقد اضطروا إلى تناول “الأمباز” – علف الحيوانات – كمصدر للطعام، وهو ما وصفه الجندي بأنه “إهانة مؤلمة لكنها كانت وسيلة للبقاء”.
يقول الجندي إنه قرر مغادرة الفاشر بعد أن أدرك أن المدينة أصبحت بلا أفق للبقاء.
رحل مع مجموعة صغيرة باتجاه مخيم زمزم للنازحين، حيث واجهوا استجوابًا قاسيًا من عناصر الدعم السريع الذين استخدموا “أوامر عسكرية” لاختبار ما إذا كانوا ينتمون للجيش، مثل “صفا – تباه”.
بعضهم تعرض للجلد والإهانة، فيما أُجبر الناجون على دفع نصف مليون جنيه سوداني مقابل السماح لهم بالمغادرة نحو منطقة قوز أبيض، ثم إلى نيالا.
وأكد أن ثلاثة من رفاقه اعتُقلوا عند بوابة نيالا بتهمة الانتماء للجيش، ولا يزال مصيرهم مجهولًا حتى اللحظة.
شهادة الجندي تكشف أن الانهيار في الفاشر ليس عسكريًا فقط، بل إنسانيًا بالدرجة الأولى.
المدينة التي صمدت لأكثر من عام ونصف تحت الحصار، باتت تفتقر إلى الغذاء والماء والدواء، وأصبح كل حيّ فيها ساحة معركة.
ويقول مراقبون إن انسحاب بعض وحدات الجيش يعكس تآكل القدرة القتالية والتنظيمية، فيما تواصل قوات الدعم السريع تضييق الخناق على المدينة من عدة محاور.
رغم حالة اليأس التي تعيشها الفاشر، يرى كثيرون أن المدينة أصبحت رمزًا مزدوجًا للانهيار والصمود في آن واحد — انهيار المؤسسات والقيادة، وصمود المدنيين الذين يواجهون الموت بأبسط وسائل البقاء.
وبينما تتزايد التقارير عن نزوح واسع وهروب الجنود من المواقع الأمامية، تتعالى الدعوات المحلية والدولية لإنقاذ ما تبقى من المدينة قبل أن تتحول إلى “رماد دارفور الأخير” في حربٍ حوّلت الإقليم إلى ساحة خراب ممتدة منذ عام 2023.