فرضية تحقيق السلام عبر الحوار مع الكيزان

10 Min Read

رشا عوض

هناك فرضية مفادها أن الطريق إلى وقف الحرب يجب أن يبدأ بإشراك الكيزان في أي حوار يهدف إلى توافق وطني حول كيفية إيقافها، بحكم كونهم عنصرا أساسيا في إشعالها واستمرارها، وبالتالي لن تتوقف الحرب إلا بالحوار معهم حتى يقتنعوا بالسلام. هذه الفرضية مختلة للأسباب التالية:

أولا: هذه الفرضية تتعامل مع الكيزان كتيار سياسي طبيعي يرغب في حياة سياسية طبيعية في السودان على قدم المساواة مع بقية القوى السياسية في البلاد في إطار حكم مدني ديمقراطي، كما تستبطن الأكذوبة المضللة التي تروجها بمثابرة الآلة الإعلامية الكيزانية وهي أن مشكلة الكيزان مع خصومهم هي الإقصاء الذي تعرضوا له في الفترة الانتقالية وبالتالي يجب جبر خاطرهم المجروح بالحوار!معضلة الكيزان قبل وبعد الثورة، وقبل وبعد الحرب هي رهانهم على ذلك التنظيم الأمني العسكري الأخطبوطي المرتبط بشبكة ضخمة من المصالح الاقتصادية التي بطبيعتها تحتاج لنظام سياسي قابض وقامع يضمن استدامتها، لأنها من النوع الذي لا يعيش إلا في الظلام والقمع، فضلا عن ارتباطات أيديولوجية ومصلحية عابرة للحدود، وقبل هذا وذاك قناعة راسخة بأن احتكارهم للسلطة هو أحد نواميس الطبيعة السياسية! هو حق طبيعي وبديهي لا مجال لمجرد مساءلته! ووسيلتهم لتأبيد احتكار السلطة هي ذلك التنظيم الأمني العسكري الأخطبوطي الذي أصبح مرجعية ذاته ويمارس الاضطهاد حتى على مخالفيه حتى داخل الحركة الإسلامية، وهو منتفش بالقوة العسكرية والأجهزة الأمنية والموارد المالية الضخمة، ولا يرى في السودان إلا ضيعة مملوكة له سلبتها الثورة بدون وجه حق!

وحتى كتابة هذه السطور لم يصدر من الكيزان كتنظيم أي خطاب سياسي جديد فيه مؤشرات للتراجع عن نهج الاحتكار والاستقواء على الشعب بالقوة العسكرية، حتى أثناء استنفارهم المواطنين للقتال في حربهم الحالية مع قوات الدعم السريع لا يقدمون لهذا الشعب وعدا بتغيير منهجهم السياسي الذي أورد البلاد موارد الهلاك، بل يقدمون وعيدا بالاستئصال لكل من اختلف معهم سياسيا ويستبقون نتائج المعركة العسكرية بإعلان نتائجها السياسية حال انتصارهم وهي الويل والثبور وعظائم الأمور لكل من لم يصطف خلفهم في حربهم القذرة هذه بوصفه خائنا وعميلا ومرتزقا وظهيرا “للميليشيا المتمردة” التي صنعوها هم لحمايتهم!! وبالفعل بدأت الاعتقالات والتعذيب والاغتيالات السياسية بأيدي الأجهزة الأمنية الكيزانية، ومنذ الآن أطلقوا العنان لأبواقهم الإعلامية لتحقير وتسفيه الثورة وتجريم رموزها والعدوان الممنهج على كل صاحب رأي أو رؤية مختلفة لطبيعة هذه الحرب.

باختصار قبل أن تضع الحرب أوزارها شرع الكيزان في تجريف الملعب السياسي من خصومهم بفجور إعلامي وبلطجة سياسية لم يشهد لها التاريخ مثيلا، فلسان حالهم ومقالهم يقول بوضوح لا لبس فيه، يجب طي صفحة الثورة نهائيا وحذف مفرداتها من القاموس السياسي وعلى رأسها الحكم المدني الديمقراطي، والإصلاح الأمني والعسكري وتفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو، بل يجب على الشعب السوداني أن يبصم على تعويض الكيزان عما تم من تفكيك جزئي لتمكينهم نتيجة هذه الحرب! ومكافأتهم بالإبقاء على ميليشياتهم المتناسلة! ومباركة عودتهم إلى السلطة عبر الجيش الذي يفرضون الآن فكرة تقديسه لا لسبب سوى أنهم يرغبون في استخدامه كحصان طروادة الذي يحملهم إلى السلطة مجددا، وبالتالي فإن الكيزان لا يطلبون حوارا بل يطلبون الإذعان والتسليم لسلطتهم المطلقة، وما أسطوانة الحوار إلا حيلة منهم لإغراق المشهد بما صنعته أجهزتهم الأمنية من دمى سياسية يمسكون هم بخيوط تحريكها. باختصار هم أشعلوا الحرب لإخراس أي حوار والاستيلاء على السلطة بالقوة، وعندما فشلوا في ذلك يرغبون الآن في أن يحققوا ما فشلوا فيه بالحرب عبر الاحتيال السياسي تحت لافتات الحوار السوداني السوداني (القاب مملكة في غير موضعها).

ثانيا: الأولوية القصوى لقوى السلام والتحول الديمقراطي يجب أن تكون توسيع وتنظيم وتقوية الكتلة المدنية الرافضة للحرب والملتزمة بالسلام والتحول الديمقراطي، وبعد أن تبرز هذه الكتلة المدنية كطرف قوي ومؤثر في معادلة توازن القوى فإنها حتما ستكون قادرة على خلق واقع جديد يتسبب في عزل المركز الأمني العسكري المتمسك بخيار الحرب لاستعادة الاستبداد والهيمنة المطلقة على البلاد أو تقسيمها للظفر بسلطة مطلقة في جزء منها، سيعزل هذا المركز حتى في دوائر الإسلامويين لأنهم سيدركون أنه عبء عليهم خصوصا بعد أن ذهبت وعوده بالنصر العسكري الحاسم أدراج الرياح. هذا المركز الأمني العسكري لو لم يعزل وتنزع مشروعيته تماما سوف يمضي في تدمير البلاد وتقسيمها بالحرب، وأسطوانات الحوار التي يرددها البعض غفلة أو تآمرا أو بحسن نية وسوء تقدير سياسي هي مجرد حيلة من حيل هذا المركز للمناورة السياسية وتقسيم القوى المدنية الديمقراطية وإلهائها بمعركة في غير معترك حول جدوى الحوار مع تنظيم أصم يجب أن تعود إليه حاسة السمع أولا حتى يكون للحوار معه جدوى، ولن تعود حاسة السمع إليه إلا بتجريده من قوته الأمنية والعسكرية التي تشكل حتى هذه اللحظة محورا تلتف حوله تيارات الكيزان المختلفة.

القوى المدنية الديمقراطية لا تملك أدوات المواجهة العسكرية ولذلك لم تراهن على الحرب، بل كانت ترغب في تفاديها وتفكيك الألغام العسكرية المزروعة في ميدان السياسة السودانية سلما وعبر مشروع سياسي لبناء جيش قومي مهني واحد لا يسيطر عليه الكيزان ويندمج فيه الدعم السريع إذ أن وضعية الجيشين المتوازيين وضعية خطيرة تنذر بالحرب، المركز الأمني العسكري الأصم لم يفقه ما كان يقوله المدنيون وراهن على الحرب لإزاحة الدعم السريع في سويعات واستعادة استبداده الأرعن، أما الدعم السريع فإن نموه العسكري الكبير يدل بلا أدنى شك على أطماعه في حيازة السلطة بقوة السلاح لحماية إمبراطورية اقتصادية ومصالح عابرة للحدود، اشتبك الفريقان في صراع عسكري عسكري على السلطة، نأمل أن تكون من تداعياته تبديد حلم المركز الأمني العسكري في العودة إلى السلطة وبذات القدر تبديد أحلام الدعم السريع، ومنذ الأيام الأولى للحرب كتبت أن هذه حرب قذرة وشريرة وأي نتيجة خيرة ستترتب عليها سوف تكون من تداعياتها وليس من مقاصد طرفيها لأن مقاصدهما هي السلطة المطلقة. القوى المدنية الديمقراطية لا تملك التحكم في داينميات الحرب ولا ينبغي لها الرهان على أي بندقية لا تملك التحكم فيها، بل واجبها الرهان على رأسمالها السياسي، وفي هذا الإطار فإن دورها في هزيمة المركز الأمني العسكري هو بناء تيار مدني ديمقراطي منظم وفاعل ومسنود شعبيا ولا يساوم في قضايا الديمقراطية وتفكيك نظام التمكين، هذا التيار بما يشكله من تحدي سياسي سوف يلقي حجرا كبيرا في بِركة الكيزان الآسنة الساكنة على أجندة الحرب والاستبداد والتوحش ويهزم هذا المركز الأمني العسكري في عقر داره، وهذا ما يفسر الهجمات الشرسة والمسعورة والممنهجة على أي محاولة لتوحيد القوى المدنية الديمقراطية.

لو برز من الكيزان تيار مستعد فعلاً لعزل المركز الأمني العسكري وأجندته الحربية والاستبدادية حينها يكون الحديث عن الحوار واجبا لأن تحقيق السلام والاستقرار يقتضي الاتفاق على معادلة للعيش المشترك بين التيارات المختلفة دون وصاية طرف أو احتكاره للسلطة بقوة السلاح. في هذا السياق لا أجد تفسيرا لأن تكون دعوات التسامح مع الكيزان والحوار معهم مصحوبة بهجوم مكثف على القوى المدنية وتحامل عليها، فلو كان الهدف هو التوصل إلى حل سلمي لكارثة الحرب، فإن التفاوض المنتج مع الكيزان والعسكر هو التفاوض المسنود بكروت ضغط تجعلهم مضطرين لقبول شروط السلام العادل وقبول قواعد اللعبة الديمقراطية، والتخلي عن احتكار السلطة بالقوة، ولن يتم ذلك إلا بأن يكون هناك تكتلا سياسيا وشعبيا منظما يتحدى أطماعهم ويجعلها غير ممكنة من الناحية العملية. ولذلك لا معنى ولا جدوى من إضاعة الزمن والجهد في صراعات بين قوى السلام والتحول الديمقراطي محورها إشراك الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني في الجهود الساعية للسلام، لأن الإسلامويين كما أثبتت تجربتهم الممتدة من 30 يونيو 1989 حتى الآن أن حل معضلتهم ليس الحوار المجاني الاستهبالي الذي تكرر في عهدهم المشؤوم منذ مؤتمر الحوار الوطني بداية التسعينات وصولا إلى حوار الوثبة في 2014 وكانت المحصلة صفرية! بل حل معضلتهم هو الحصار السياسي المدروس الذي يجبرهم على حوار حقيقي بين أنداد متكافئين، وتأسيسا على ذلك يجب أن تكون الأولوية في أجندة القوى الديمقراطية هي وحدتها وتقوية اصطفافها وتأهيل نفسها لتكون طرفا قويا في معادلة توازن القوى، لأن هذه هي الضمانة الوحيدة لنجاح أي حوار مع الإسلامويين، وبدونها يصبح الحوار مجرد إذعان لإملاءاتهم، ولكن من الغرابة بمكان أن تختلف وتتصارع وتنقسم قوى السلام والتحول الديمقراطي فيما بينها وتضعف تحالفاتها بسبب تأييد أو معارضة الحوار مع الإسلامويين أو إشراكهم في العملية السياسية التي ستعقب الحرب!

ثالثا: الكيزان لهم وجود مؤثر في الجيش وفي الدعم السريع وفي الواجهات الأمنية المصنوعة مثل الكتلة الديمقراطية وأخواتها، فضلا عن اختراقاتهم المرئية وغير المرئية لكل الأحزاب والتحالفات في الساحة، ولذلك فإن المتوقع من دعاة السلام والتحول الديمقراطي هو السعي لتقليص مساحات تمدد الكيزان لا المطالبة بتوسيعها عبر حصة إضافية لمشاركة الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني المحلول بأمر الثورة رغم انحيازه السافر للأجندة الحربية والاستبدادية وعملهم بصورة منهجية لعرقلة أي توجه للسلام ورهانهم الاستراتيجي على تنظيمهم الأمني والعسكري في السيطرة المطلقة على البلاد!

Share This Article