فضيحة الوفد السوداني في موسكو

6 Min Read

لم تكن حادثة منع السلطات الروسية وفد هيئة الموانئ البحرية السودانية من دخول موسكو مجرّد خطأ إداري عابر، بل كاشفة لحالة الفوضى والارتباك التي تحكم مؤسسات الدولة السودانية في مرحلة ما بعد الحرب، حيث اختلطت المصالح الشخصية بالتمثيل الرسمي، وغابت المعايير التي تحفظ هيبة البلاد.

الواقعة

وفقاً لمصادر إعلامية سودانية، رفضت سلطات مطار موسكو السماح لوفد من هيئة الموانئ البحرية السودانية بالدخول إلى الأراضي الروسية، بعد أن تبيّن أنه لم يحصل على دعوة رسمية أو تنسيق مسبق مع أي جهة روسية معتمدة.

الوفد، الذي ضم أكثر من عشرة موظفين من الهيئة، كان في طريقه إلى زيارة شركة روسية عاملة في مجال الموانئ والنقل البحري، لكن الشركة نفسها نفت تقديم أي دعوة أو ترتيب مسبق للزيارة.

وبحسب الصحفية سمية سيد، فإن الجانب الروسي أبلغ السلطات السودانية بأن وصول الوفد بهذه الطريقة مثير للريبة، خصوصاً بعد مراجعة الوثائق وعدم العثور على ما يثبت الطابع الرسمي للزيارة. النتيجة كانت رفض دخول الوفد وإعادته من المطار، في واقعة أثارت جدلاً واسعاً داخل الأوساط الرسمية والشعبية في السودان.

خلفية الحدث

هيئة الموانئ البحرية السودانية تُعد واحدة من المؤسسات الحيوية القليلة التي ظلت تعمل رغم الحرب المستمرة، إذ تُشرف على ميناء بورتسودان الذي يمثل الشريان الاقتصادي الرئيسي للبلاد. غير أن الهيئة، مثل سائر المؤسسات الحكومية، تعاني من تضارب الولاءات وضعف الانضباط الإداري بعد اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023.

الرحلة إلى موسكو، وفق ما تسرّب من معلومات، لم تكن بتكليف رسمي من وزارة النقل أو الخارجية، بل تم تنظيمها بقرار داخلي من إدارة الهيئة، دون التنسيق مع الجهات المختصة أو إخطار السفارة السودانية في موسكو.

هذا التجاوز الإداري الصارخ يثير تساؤلات حول حجم الفساد الإداري وسوء استخدام الموارد العامة في مؤسسات الدولة، في وقت يعاني فيه ملايين السودانيين من الجوع والنزوح وانهيار الخدمات.

دلالات سياسية ودبلوماسية

الفضيحة تحمل بعداً دبلوماسياً حساساً، لأنها حدثت مع دولة ترتبط بعلاقات استراتيجية متزايدة مع السودان، خصوصاً في مجالات التعدين والموانئ.

منع الوفد من الدخول يعكس أن روسيا تتعامل بصرامة مع مسألة التمثيل الرسمي والاعتراف المؤسسي، وأنها لم تعد تقبل التعامل مع وفود غير منسقة أو مشكوك في تفويضها.

هذه الواقعة تأتي في وقتٍ تشهد فيه العلاقات السودانية الروسية حالة من الغموض، خاصة بعد تراجع الحديث عن اتفاق إنشاء قاعدة بحرية روسية في بورتسودان.

كما أنها تضعف موقف الحكومة السودانية أمام شركائها الدوليين الذين يراقبون عن كثب مدى التزام مؤسساتها بالشفافية والانضباط.

أبعاد مالية مثيرة للجدل

بحسب مصادر داخل الهيئة، تمّ إنفاق مبالغ ضخمة على الرحلة شملت تذاكر طيران وإقامة في فنادق فخمة، رغم أن الوفد لم يكن يحمل أي تفويض رسمي.

هذا الهدر المالي في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها السودان يثير غضب الرأي العام، ويكشف كيف تستمر بعض المؤسسات في ممارسة “السفر الوظيفي السياحي” تحت لافتة المهمات الرسمية.

في بلدٍ يعجز عن دفع مرتبات موظفيه بانتظام، ويعيش ملايين من سكانه في مخيمات النزوح، يصبح مشهد وفد حكومي يُمنع من دخول موسكو لأنه سافر دون دعوة أو هدف واضح مثالاً صارخاً على غياب المسؤولية.

صمت رسمي محرج

حتى الآن، لم تصدر هيئة الموانئ البحرية أو وزارة النقل أي بيان يوضح ملابسات الواقعة أو يحمّل المسؤولية لأي طرف.

الصمت الحكومي فُسّر على نطاق واسع كنوع من الإقرار الضمني بالخطأ، ومحاولة لاحتواء الفضيحة بعيداً عن الإعلام.

لكن في عصر الشفافية الرقمية، لم يعد الصمت يحمي أحداً . فصور أعضاء الوفد في مطار موسكو انتشرت على مواقع التواصل، وتحولت إلى مادة ساخرة تعبّر عن الهوة بين واقع المؤسسات السودانية وصورتها التي تحاول تصديرها للخارج.

انعكاسات داخلية

في الداخل، أحدثت الحادثة صدمة بين موظفي الهيئة نفسها، إذ اعتبرها بعض العاملين “نتيجة طبيعية لتسييس المؤسسة وتغوّل المصالح الشخصية على العمل العام”.

مصادر من داخل بورتسودان قالت إن الرحلات الخارجية للوفود الحكومية أصبحت باباً للفساد الإداري، تُمنح فيها المقاعد كمكافآت للولاء أو القرب من المسؤولين، لا على أساس الكفاءة أو الحاجة الفعلية.

وتؤكد الواقعة أن السودان، رغم الظروف الاستثنائية التي يعيشها، لا يزال يدار بعقلية ما قبل الدولة الحديثة عقلية الولاءات، لا المؤسسات.

تساؤلات مشروعة

الفضيحة تفتح الباب أمام سلسلة من الأسئلة التي لم تجد إجابة حتى الآن:

          •         من الذي صادق على سفر هذا الوفد؟

          •         من موّل الرحلة ومن وقّع على أوامر الصرف؟

          •         ولماذا لم تُخطر وزارة الخارجية أو السفارة السودانية في موسكو بهذه الزيارة؟

          •         وكيف يُسمح بعشرة موظفين بمغادرة البلاد باسم مؤسسة استراتيجية دون إذن رسمي؟

هذه الأسئلة ليست تقنية فقط، بل تمس جوهر مفهوم الدولة. فحين تتحول الزيارات الخارجية إلى فرص شخصية، تفقد المؤسسات معناها الوطني، وتتحول العلاقات الخارجية إلى مسرح عبث إداري.

مقارنة مؤلمة

في دول أخرى، مثل كينيا وغانا ورواندا، تُدار الوفود الرسمية وفق لوائح دقيقة، تُحدّد المهام والموازنة والمخرجات المتوقعة من كل زيارة.

أما في السودان، فتتحول بعض الرحلات إلى مغامرات جماعية تنتهي على بوابات المطارات الأجنبية.

رفض روسيا دخول الوفد ليس إذلالاً، بل صفعة حقيقية للمؤسسة السودانية التي نسيت معنى الانضباط الرسمي

ما حدث في موسكو ليس مجرد سوء تفاهم بروتوكولي، بل علامة فارقة على تآكل هيبة المؤسسات العامة، حين يسافر موظفون باسم الدولة دون علمها، وحين تُدار العلاقات الخارجية بالعشوائية ذاتها التي تُدار بها شؤون الداخل.

لقد منعت روسيا وفد هيئة الموانئ من دخول أراضيها، لكن الأخطر هو أن السودان نفسه سمح لهم بالمغادرة دون إذن، ودون مساءلة.

وهذا هو جوهر الأزمة: ليست في مطار موسكو، بل في مطار بورتسودان حيث تبدأ كل الرحلات العبثية باسم الوطن.

Share This Article