في تطور لافت يعكس قلق السلطات من الانفلات المتزايد في السوق الموازي للعملات، شنت الأجهزة الأمنية في مدينة بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة للسودان، حملة موسعة تستهدف تجار العملة والمتعاملين في السوق السوداء، في ظل ارتفاع غير مسبوق في أسعار الدولار والعملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني.
الحملة، التي بدأت خلال الساعات الماضية، جاءت بتوجيهات مباشرة من الجهات المختصة، وركزت على مداهمة مواقع مشبوهة يُعتقد أنها مراكز لتداول العملات الأجنبية خارج الأطر القانونية، وتم خلال العمليات ضبط عدد من المتعاملين ومصادرة مبالغ مالية، في إطار جهود السلطات لكبح جماح السوق الموازي، الذي تسبب في انهيار متسارع للعملة الوطنية وارتفاع كلفة المعيشة في البلاد.
يواجه الاقتصاد السوداني تحديات جسيمة منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، إذ تراجعت أنشطة البنوك والمؤسسات المالية الرسمية، وتقلّصت حركة النقد الأجنبي، ما ترك فراغاً استغلّه سماسرة السوق الموازي في مختلف المدن، وعلى رأسها بورتسودان التي تحوّلت إلى مركز رئيسي للمعاملات غير الرسمية في ظل ضعف الرقابة وغياب السياسات النقدية الفاعلة.
وأدى هذا الانفلات إلى تفاقم أزمة الجنيه السوداني الذي فقد جزءاً كبيراً من قيمته خلال الأشهر الماضية، وسط عجز حكومي واضح عن ضبط السوق أو استعادة الثقة في الجهاز المصرفي، وتجاوز سعر الدولار في السوق الموازي حاجز 1,200 جنيه، بينما لا تزال أسعار الصرف الرسمية مجمدة دون قدرة على مجاراة السوق أو التدخل الفعال.
الحملة الأمنية في بورتسودان تحمل أكثر من دلالة، فهي من جهة تمثل محاولة لاستعادة السيطرة على واحدة من أبرز أدوات الضغط الاقتصادي، ومن جهة أخرى تبعث برسالة بأن الدولة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام من يتاجرون بمعيشة المواطنين، خصوصًا في ظل تزايد الأصوات الشعبية المطالبة بإجراءات رادعة وحلول حقيقية للأزمة الاقتصادية.
ورغم أهمية هذه الحملات، يرى خبراء اقتصاديون أن الملاحقات الأمنية وحدها لا تكفي لضبط السوق الموازي، ما لم تترافق مع إصلاحات اقتصادية شاملة، تبدأ بتوحيد سعر الصرف، وإعادة هيكلة السياسة النقدية، وتنشيط عمل البنك المركزي ليلعب دوره كضابط حقيقي لحركة العملات الأجنبية.
يبقى التحدي الأكبر أمام السلطات في بورتسودان وفي بقية ولايات السودان هو إيجاد توازن بين الإجراءات الأمنية العاجلة لوقف نزيف الجنيه، وبين وضع خطة اقتصادية طويلة الأمد تُعيد الثقة في النظام المالي الرسمي، وتوفّر بيئة مستقرة للاستثمار والتجارة.
وفي ظل تعقيدات الحرب وتراجع الدعم الخارجي، تبدو المعركة ضد السوق الموازي جزءاً من معركة أكبر لاستعادة الدولة دورها الاقتصادي، وحماية المواطن من فوضى الأسعار وجشع المضاربين، لكن نجاح ذلك يظل مرهونًا بالإرادة السياسية، والاستقرار الأمني، وتضافر الجهود على المستويين المركزي والولائي.