في ظل الصراعات الدامية التي تعصف بالسودان منذ اندلاع الحرب بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، يبرز تشكيل حكومة السلام من قبل تحالف السودان التأسيسي “تأسيس” كحدث سياسي يعكس عمق الأزمة الوطنية. هذه الحكومة، التي أعلنت عن نفسها كبديل وطني في مواجهة فراغ الدولة وانهيار المؤسسات، تأتي في سياق تاريخي مليء بالانقسامات، حيث شهد السودان منذ استقلاله عام 1956 سلسلة من الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية التي أدت إلى تقسيم البلاد، كما في حالة انفصال جنوب السودان عام 2011. اليوم، مع حكومتين متنافستين –واحدة في بورتسودان تمثل السلطة العسكرية، والأخرى في نيالا تسعى لتمثيل الهامش والريف– يطرح السؤال: هل نحن أمام محاولة لإعادة بناء الدولة، أم استمرار للانقسامات التي أنهكت الشعب السوداني؟
هذه المقابلة الحصرية لمنصة “سينا” الإعلامية تأتي لتسلط الضوء على هذه القضية من خلال عيون خبيرة مخضرمة: لنا مهدي، الإعلامية والمحللة المتخصصة في الشؤون الأفريقية. بفضل خبرتها الواسعة في رصد النزاعات الإقليمية، مثل تلك في مالي وليبيا والصومال، حيث شكلت حكومات موازية في أوقات الفراغ السياسي، تقدم لنا مهدي تحليلاً عميقاً يجمع بين السياق التاريخي والآفاق المستقبلية. كما في تجارب دولية مشابهة، مثل اتفاق الصخيرات في ليبيا أو جيبوتي في الصومال، الذي أدى إلى توحيد مؤسسات، تسعى لنا مهدي إلى استكشاف كيف يمكن لحكومة السلام أن تكون جسرًا نحو الاستقرار، لا عقبة إضافية.
الحوار الرئيسي
تمثيل المواطنين أم رد فعل؟
سينا: في ظل وجود حكومتين في السودان اليوم، هل تعتقدين أن حكومة “السلام” التي شكلها تحالف السودان التأسيسي “تأسيس” تسعى لتمثيل المواطنين فعلاً، أم أنها مجرد رد فعل سياسي على حكومة “الأمل” بورتسودان؟
لنا مهدي: مع واقع اليوم، أعتقد أن حكومة السلام التي أعلنها تحالف تأسيس ليست مجرد رد فعل سياسي، بل امتداد منطقي لتحركات ظلت تتكرر في السودان كلما وصلت البلاد إلى مأزق سلطوي عسكري. ربما نجد أصداء لهذه الحالة في تجارب مماثلة مثل إعلان الحكومة المؤقتة في جنوب السودان أو سلطات المعارضة في أريتريا قبل الاستقلال. من الواضح أن حكومة تأسيس تسعى لتمثيل المواطنين خارج منطق الانقلابات واحتكار العاصمة للشرعية، وهذا ليس جديداً في المشهد السوداني، بل يعكس رغبة تاريخية في كسر المركزية واستعادة صوت الهامش والريف والطبقات المقموعة منذ فجر الاستقلال.
انقسام أم بديل وطني؟
سينا: هذا يثير تساؤلاً آخر: هل يمكن اعتبار تشكيل حكومة السلام إعلانًا عمليًا بانقسام السودان، أم محاولة لتقديم بديل وطني في ظل فراغ الدولة؟
لنا مهدي: أعتقد أن هذا التشكيل لا يمكن فهمه بوصفه إعلاناً عن انقسام السودان، بل هو محاولة واضحة لملء فراغ الدولة الذي أصبح اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله. ومن خلال رصدي لمجريات الأحداث في المنطقة، أرى أن سيناريوهات التقسيم غالباً ما تبدأ من صمت النخب وليس من حراكها. وربما يشكل هذا التكوين المدني قاعدة بديلة لاستعادة فكرة الدولة ذات العقد الاجتماعي المتوازن، كما حاولت بعض الحركات السياسية في أفريقيا الوسطى أو مالي عندما خرجت من رحم أزمات مماثلة. وفي الحالة السودانية، فإن البديل الوطني ليس ترفاً، بل ضرورة أمام انهيار المؤسسات القائمة وتآكل الشرعية في بورتسودان.
الدولة المدنية أم تسوية بين سلاحين؟
سينا: في الوقت الذي تتحدث فيه حكومة تأسيس عن “الثورة” و”التغيير”، هناك تحالفات عسكرية قائمة على الأمر الواقع، فهل نحن أمام مشروع لبناء دولة أم تسوية بين سلاحين؟
لنا مهدي: من خلال تحليلي للتوازنات الإقليمية في المنطقة، أرى أن حكومة تأسيس تقدم خطاباً يتجاوز مجرد تسوية بين سلاحين وتحاول بناء دولة مدنية بوسائل مختلفة رغم واقع السلاح المفروض بالقوة. ومع ذلك، فإن تجارب دول مثل جنوب السودان أو الكونغو الديمقراطية علمتنا أن أي مشروع وطني لا يتحرر من قبضة السلاح سيظل عرضة للابتزاز. وربما يكمن التحدي الحقيقي في قدرة هذه الحكومة على نزع الشرعية السياسية من السلاح عبر ترسيخ مؤسسات مدنية تملك مصداقية جماهيرية، وهذا يتطلب وقتاً وزخماً شعبياً لم يتوفر بعد، لكنه قد يتشكل بفعل استمرار انهيار النظام المقابل.
الاعتراف الإقليمي والدولي
سينا: بناءً على ذلك، ما فرص حصول حكومة السلام على اعتراف إقليمي أو دولي؟ وهل هناك خطوات فعلية أم أن المشروع لا يزال محليًا بحتًا؟
لنا مهدي: في ضوء تجارب الحكومات الوليدة في أفريقيا والمنطقة، أرى أن الاعتراف الإقليمي والدولي يتطلب شروطاً تتعلق بالاستقرار الداخلي أولاً. ومن خلال قراءتي لمواقف بعض الدول المؤثرة، أعتقد أن هناك اهتماماً متزايداً بما يحدث في السودان، خاصة أن الدولة القديمة أصبحت عاجزة عن إدارة حتى أبسط مظاهر السيادة. وربما تحاول حكومة السلام استثمار هذا الفراغ لطرح نفسها كبديل، لكن الحصول على اعتراف رسمي يظل مرهوناً بإثبات الجدارة والاستمرارية وتقديم رؤية واضحة للمستقبل، وهذه عناصر غابت عن كثير من الحكومات المشابهة التي عرفها التاريخ السوداني والأفريقي في العقود الماضية.
علاقة الحكومة بالدعم السريع
سينا: يقال إن حكومة السلام تابعة لقوات الدعم السريع بشكل غير مباشر، ما رأيك في ذلك؟
لنا مهدي: من واقعنا الحالي، أرى أن هذا الاتهام بأن حكومة السلام تابعة للدعم السريع يعكس محاولة لتقزيم مشروع سياسي مدني بدأ يتشكل. ربما تكون هناك تقاطعات لحظية في المواقف أو حماية عسكرية للمناطق الخاضعة للحكومة الجديدة، لكن لا يمكن اختزالها في ذلك تماماً، كما لم يتم اختزال الحركة الشعبية في سلاحها وحده رغم ارتباطها ببنية عسكرية ثقيلة في بداية نشأتها. ما نراه الآن هو ولادة معقدة لكيان مدني يسعى لتوسيع مساحته السياسية وسط بحر من السلاح والانهيار، ولا أعتقد أن هذا السعي يجب أن يدان فقط لأنه يحتمي مؤقتاً بحامل أمني.
مشروع وطني أم حلقة انقسام جديدة؟
سينا: في سياق ذلك، هل ستستمر النخب السياسية في إنتاج حكومات موازية والبدء في إنتاج مشروع وطني واحد للسودان؟ وهل حكومة السلام بداية لهذا المشروع أم مجرد حلقة جديدة من الانقسام؟
لنا مهدي: ربما آن الأوان لكي تتوقف النخب السودانية عن إنتاج المزيد من الكيانات الانقسامية وتبدأ فعلاً في تشكيل مشروع وطني جامع. ومن خلال قراءتي التاريخية لتجارب مماثلة في إثيوبيا وكينيا، أعتقد أن اللحظة التي نحن فيها قد تكون مناسبة لتغيير نمط التفكير السياسي. حكومة تأسيس إذا استطاعت توسيع قاعدتها السياسية والتواصل مع مختلف الأقاليم والفاعلين قد تشكل بداية حقيقية لهذا المشروع، أما إذا ظلت حكراً على نخبة مدنية مركزية فقد تكون مجرد نسخة جديدة من حكومات الماضي التي كرست الانقسام بدل أن تتجاوزه.
مقارنة تاريخية مع المحاولات السابقة
سينا: كيف يقارن تشكيل حكومة السلام مع المحاولات التاريخية السابقة في السودان لتشكيل حكومات موازية أثناء الصراعات، مثل تلك التي حدثت خلال الحرب الأهلية الثانية (1983-2005) أو أزمة دارفور في العقد الأول من القرن العشرين؟
لنا مهدي: عند المقارنة بتجارب مثل الحكومات المماثلة خلال الحرب الأهلية الثانية أو أزمة دارفور، فإن ما يميز حكومة السلام هو محاولتها تقديم خطاب مدني شامل عابر للجغرافيا. ومن خلال قراءتي لتاريخ تلك الفترات، أرى أن الحكومات الموازية آنذاك كانت ردود فعل محلية أو جهوية، في حين أن تأسيس يحاول طرح مشروع وطني متكامل يتقاطع مع مفاهيم الدولة الفيدرالية والحكم المدني. وقد تكون هذه التجربة قريبة في روحها من تجربة تحالف التجمع الوطني في أسمرا، لكنها تختلف عنها من حيث التوقيت إذ تأتي في لحظة فراغ شامل لا سلطة ولا دستور ولا مؤسسات قائمة فعلياً.
ديناميكيات ما بعد ديسمبر 2018
سينا: هل تعيد حكومة السلام إحياء الديناميكيات السياسية التي سادت بعد ثورة ديسمبر 2018 في السودان، أم أنها تمثل استمراراً للانقسامات التاريخية بين النخب العسكرية والمدنية التي شهدها السودان منذ الاستقلال عام 1956؟
لنا مهدي: لا أرى أن حكومة السلام مجرد امتداد لانقسامات 1956، بل أعتقد أنها في جوهرها محاولة لاستعادة الديناميكيات التي انطلقت بعد ثورة ديسمبر 2018، ولكن في إطار أكثر جذرية. ذلك أن تلك الثورة أنتجت طاقة سياسية لم تجد قنوات مؤسسية تعبر عنها، وربما تسعى حكومة تأسيس لإعادة توجيه هذه الطاقة بشكل منظم ومؤسسي بعيداً عن المحاصصات القديمة. وربما يشبه هذا النموذج ما حدث في تونس ما بعد الثورة حين حاولت بعض التيارات إحياء الحراك المدني بمؤسسات بديلة بعد تعثر المرحلة الانتقالية، وهذا ما تسعى إليه القوى المؤسسة لحكومة السلام اليوم في السودان.
دروس من ليبيا والصومال
سينا: في سياق الصراعات الأفريقية المشابهة، مثل تلك في ليبيا أو الصومال حيث تشكلت حكومات موازية، ما هي الدروس التاريخية التي يمكن أن تستفيد منها حكومة السلام لتجنب الانقسام الدائم أو التدخلات الخارجية؟
لنا مهدي: من خلال تتبعي لتجارب الحكومات المشابهة لتأسيس في ليبيا والصومال وغيرهما، أعتقد أن حكومة السلام أمام مفترق حاسم. فإذا أعادت إنتاج نهج التحالفات المسلحة والانغلاق الإيديولوجي، فإن مصيرها سيكون الفشل والانقسام الدائم. أما إذا انفتحت على قاعدة جماهيرية واسعة واعتمدت خطاباً وطنياً مرناً، فقد تشكل بداية لتجربة سياسية ناضجة ربما تكون قادرة على تجنيب السودان مصير التجزئة والتدخلات. وربما تستفيد من دروس مثل اتفاق جيبوتي في الصومال أو اتفاق الصخيرات في ليبيا اللذان قادا إلى توحيد مؤسسات الدولة رغم التحديات، وربما تشكل الرباعية منصة لذلك إذا توفرت الإرادة السياسية.
الحسابات الإقليمية والتحالفات
سينا: كيف تؤثر التحالفات الشرق أوسطية-الأفريقية، مثل تلك بين مصر والسودان في قضايا النيل أو دور تركيا في المنطقة، على إمكانية حصول حكومة السلام على اعتراف دولي، خاصة في ظل جهود السلام الإقليمية مثل محادثات الرباعية؟
لنا مهدي: تحليلي للتحالفات الإقليمية يظهر أن حكومة السلام ستواجه صعوبات في الحصول على اعتراف سريع بسبب تعقيدات الملف السوداني في علاقته بمصر وإثيوبيا وقضية النيل، وكذلك توازنات تركيا والخليج في البحر الأحمر. وربما تجد هذه الحكومة فرصتها إذا استطاعت أن تلعب دوراً مرناً وغير متصادم مع المحاور الكبرى، وربما يكون لها هامش مناورة ضمن محادثات الرباعية إذا تبنت خطاباً عقلانياً يركز على الاستقرار والتنمية بدلاً من التصعيد السياسي، وبهذا يمكنها أن تتموضع تدريجياً داخل المشهد الدبلوماسي الإقليمي كممثل شرعي للكتلة المدنية التي تبحث عن السلام والاستقرار في السودان.
التحديات المباشرة وتثبيت الانطلاقة
سينا: لننتقل إلى سؤال إضافي يتعلق بالتحديات المباشرة: ما العراقيل التي يمكن لحكومة تأسيس تجاوزها للانطلاق السليم، وما الأخطاء التي شابت تكوينها ويمكن تلافيها؟
لنا مهدي: من خلال متابعتي لتجارب الانتقال السياسي في الإقليم وتحليل السياقات المشابهة، أعتقد أن حكومة تأسيس تمتلك فرصة حقيقية للانطلاق السليم إذا تمكنت من ترسيخ آليات شفافة للتشاور الداخلي وتوسيع قاعدة التمثيل الشعبي بشكل متدرج ومتكامل. ربما تحتاج إلى إعادة ضبط أولوياتها بما ينسجم مع واقع ما بعد الحرب واحتياجات المجتمعات المتأثرة، وإظهار مرونة في بناء التحالفات دون التفريط في المبادئ التأسيسية. كما أن تطوير أدواتها الإعلامية والاتصالية وتعزيز الحضور في المحيطين الإقليمي والدولي سيساعد في تثبيت مكانتها كخيار مدني مسؤول وقابل للاستمرار. أما ما شاب لحظة التكوين من تباينات، فربما يعود لطبيعة اللحظة السياسية المعقدة وليس لخلل في الرؤية، ويمكن تلافي آثار ذلك عبر التركيز على البناء المؤسساتي والانفتاح المتدرج نحو قوى المجتمع السوداني الواسعة التي تتطلع إلى بديل وطني جامع ومستقر.
تمثيل النساء
سينا: أخيراً، اتهمت تأسيس بقصور في تمثيل النساء، فما تعليقك على ذلك؟
لنا مهدي: ربما يكون من المفيد الإشارة إلى أن حضور النساء في تشكيل المجلس الرئاسي لحكومة السلام لم يواكب بعد الحراك الواسع والدور الحيوي الذي لعبته النساء السودانيات في المراحل المختلفة من الثورة والعمل المجتمعي والسياسي. ورغم أن طبيعة اللحظة التأسيسية تتطلب سرعة في البناء وتركيزاً على الأولويات، إلا أن التجارب في السودان والمنطقة أثبتت أن إشراك النساء بشكل فاعل لا يعزز فقط مشروعية أي كيان سياسي، بل يساهم أيضاً في ترسيخ العدالة الاجتماعية وتوسيع قاعدة الدعم الشعبي. وربما يشكل هذا الملف فرصة مقبلة للحكومة لإعادة التوازن في تمثيل القوى الاجتماعية بما يعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوداني ويعزز مناعة المشروع الوطني الذي تسعى لتأسيسه.
الخاتمة
من خلال هذه المقابلة، تبرز حكومة السلام كمحاولة جريئة لملء الفراغ الوطني في السودان، مع التركيز على بناء دولة مدنية تتجاوز الانقسامات العسكرية والمركزية، كما أوضحت لنا مهدي في تحليلها العميق. الدروس المستفادة من تجارب أفريقية وشرق أوسطية تشير إلى أهمية الشفافية، توسيع التمثيل (بما في ذلك النساء)، والانفتاح على التحالفات الإقليمية لتجنب الفشل. مع ذلك، يظل التحدي في تحويل هذا المشروع من رد فعل إلى عقد اجتماعي متوازن، خاصة في ظل جهود مثل محادثات الرباعية التي قد تفتح آفاقاً للاعتراف الدولي والسلام المستدام.