ثنائية التبعية تُقيد سودانير: شركة وطنية تتقاسمها جهتان حكوميتان وتفقد هويتها المؤسسية

3 Min Read

تعيش الخطوط الجوية السودانية (سودانير) واحدة من أعقد أزماتها منذ تأسيسها، إذ لم يعد الانهيار الذي يواجه الشركة مرتبطًا بالأعطال الفنية أو التحديات المالية فحسب، بل بتضارب إداري وهيكلي سببه ثنائية التبعية بين وزارة المالية ووزارة النقل، ما جعلها شركة بلا قرار واضح ولا رؤية تشغيلية موحدة.

تحتفظ وزارة المالية بسلطة الإشراف المالي والإداري على “سودانير” بوصفها مالكة لأصول الدولة، إلا أن تعاملها مع الشركة ظل أقرب إلى إدارة وحدة حكومية تتلقى ميزانية، لا شركة وطنية تهدف للربح والتوسع.
تركّز الوزارة على مراقبة الصرف وضبط البنود المالية، بينما تحتاج “سودانير” إلى سيولة تشغيلية مرنة واستثمارات تتماشى مع متطلبات صناعة الطيران العالمية. هذا النهج الصارم في الرقابة حرم الشركة من القدرة على التحديث والتطوير، وأخضع قراراتها لمنظور مالي جامد لا يتناسب مع طبيعة سوق الطيران سريع التغير.

في المقابل، بقيت وزارة النقل الجهة “الوصية فنيًا” على الشركة، لكنها بلا صلاحيات مالية تمكّنها من تنفيذ رؤيتها أو تطوير أسطول الشركة ومرافقها. تحولت إشرافاتها إلى طابع رمزي، وتعثرت المشروعات الفنية في غياب التمويل والتنسيق مع وزارة المالية، ما خلق فجوة واسعة بين الرؤية الفنية والإمكانيات الفعلية.

هذا الازدواج القاتل أنتج تضاربًا مستمرًا في القرارات: تعيينات تحتاج موافقة جهتين، عقود تمر بمسارين مختلفين، وصيانة تُقر فنيًا وتُرفض ماليًا. وبين هذا وذاك، ضاعت المسؤولية وغابت المحاسبة، لتتحول “سودانير” إلى كيان بلا هوية واضحة — لا هي شركة حكومية بالمعنى الإداري، ولا مؤسسة تجارية قادرة على المنافسة في السوق.

يرى خبراء النقل أن إنقاذ “سودانير” يبدأ من تحريرها من ثنائية التبعية وإعادة تعريفها كشركة وطنية تجارية مستقلة، تُدار وفق منطق السوق لا الأوامر الحكومية.
التجارب الدولية الناجحة في قطاع الطيران تؤكد أن الشركات الوطنية لا تنهض إلا حين تكتسب استقلالية مالية وتشريعية، تتيح لها اتخاذ قراراتها التشغيلية بحرية مع الالتزام بالرقابة والمحاسبة وفق معايير الأداء.

ورغم تعقيد المشهد، برزت محاولات إصلاحية من داخل الشركة، أبرزها جهود الكابتن مازن الذي تحرك بروح المهنة لا بثقل المناصب، ساعيًا إلى إحياء ثقافة الانضباط والتخطيط التجاري في بيئة يغلب عليها الطابع السياسي والبيروقراطي.
إيمانه بأن الإصلاح ممكن إذا توفرت الإرادة واستُعيدت روح المؤسسة يعبّر عن بريق أمل وسط حالة الانقسام والتراخي التي تعيشها الشركة.

لن تنهض “سودانير” ما دامت مقيدة بين وزارتين تتنازعان القرار والسلطة.
إن إنقاذ الناقل الوطني يتطلب فصلًا حاسمًا للتبعية، وإعادة بنائها كشركة وطنية تجارية مستقلة تُدار بعقلية السوق وتُحاسب بمعايير الكفاءة، لا بالأوامر.
فـ”سودانير” ببساطة، شركة تقاسمتها جهتان… فماتت بين يديهما، ولن تُبعث من جديد إلا إذا استعادت روحها التجارية وإدارتها المهنية الحرة.

Share This Article