السودان بين الحرب و الاهمال

6 Min Read

في أحد مستشفيات دنقلا بالشمال، يجلس رجلٌ نحيل الملامح ينتظر دوره في جلسة غسيل كُلى قد لا تأتي مُنهكٌ من المرض، ومن الغياب الكامل للدعم الطبي والغذائي، يختصر ملامحه قصة وطنٍ بأكمله.

فهذا المشهد الذي بثّته قناة الجزيرة – السودان لم يكن مجرد تقرير إنساني، بل مرآة تعكس فشل السلطة في بورتسودان، التي تدّعي الشرعية بينما تترك مواطنيها للموت البطيء.

منذ انتقال الحكومة إلى بورتسودان بوصفها “حكومة الأمر الواقع”، لم تتبدّل سياسات العجز التي أرّقت السودان لعقود.

فلا توجد خطة واضحة للطوارئ الصحية، ولا شبكة إمداد طبي فاعلة، ولا رؤية لإدارة الأزمة الإنسانية المتفاقمة.

المستشفيات تعمل بإمكانات بدائية، ومراكز الغسيل في الشمال مهددة بالإغلاق بسبب ندرة المحاليل وارتفاع التكاليف.

ورغم أن السلطة تُحمّل الحرب كل شيء، إلا أن الحقيقة أوضح من التبرير: ما يجري ليس نتيجة حربٍ فقط، بل نتيجة غيابٍ كامل للإرادة والضمير السياسي.

الحكومة التي تعقد المؤتمرات وتُصدر البيانات، لم تستطع حتى الآن توفير أبسط مقومات البقاء للمرضى.

لقد أصبحت وزارة الصحة في بورتسودان مجرد مكتبٍ إداري بلا أدوات، والقرارات تُكتب على الورق بينما يموت الناس على الأسرة. في الوقت الذي تطالب فيه الحكومة المواطنين بالعودة إلى مناطقهم، لا توفّر لهم شيئاً للعيش الكريم فكيف يُطلب من مريض كُلى أن يعود إلى الخرطوم أو الى اي مدينه اخرى، حيث لا دواء ولا كهرباء ولا غذاء؟ وكيف تُطالب الأسر بالعودة إلى منازلها بينما تنهار الخدمات الأساسية حتى في المدن الآمنة؟.

إن هذه الدعوة إلى “العودة للوطن” ليست سوى شعارٍ سياسي لتجميل العجز، فالدولة التي لا تملك خطة لإنقاذ مريض، لا تملك حق الدعوة إلى إعادة الحياة.

السلطة في بورتسودان تتحدث عن “الاستقرار الإداري”، بينما الواقع يصرخ بعكس ذلك:

مواطنون بلا خدمات، أقاليم بلا إمداد، ومؤسسات بلا موارد.

قضية مرضى الكُلى ليست استثناءً، بل تعبير عن أزمة الدولة السودانية المزمنة.

فمنذ عقود، جرى تهميش القطاع الصحي حتى صار رمزاً لانهيار الدولة.

فبدل أن يكون العلاج حقاً، أصبح امتيازاً، وبدل أن تكون المستشفيات ملاذاً، أصبحت عبئاً على المرضى وذويهم.

وفي ظل غياب الدولة، تحوّلت حياة المرضى إلى معادلة مؤلمة:

            •          جلسة غسيل قد تُؤجل تعني موتاً محتماً.

            •          نقص في المحاليل يعني تقصيراً رسمياً يُقاس بالدم.

            •          والعلاج الذي كان مجانياً أصبح حلماً مكلفاً يفوق قدرة المواطن العادي.

هذا ليس عجزاً تقنياً، بل جريمة سياسية مكتملة الأركان: حين تُترك الفئات الأضعف لتواجه مصيرها وحدها، يصبح الإهمال أداة قتل بطيء لا تقل فتكا عن السلاح.

تُبرر حكومة بورتسودان كل شيء بالحرب، لكنها لم تُقدّم أي مبادرة تُثبت أنها تفهم معنى إدارة الأزمات.

فالحروب لا تعفي الحكومات من واجبها تجاه مواطنيها، بل تُظهر معدنها الحقيقي.

وعندما يعجز المسؤولون عن إدارة ملفٍ صغير مثل إمدادات غسيل الكلى، فكيف يمكنهم إدارة بلدٍ ممزقٍ يئن تحت أعباء النزوح والمجاعة والانقسام؟

في الواقع، الحرب لم تخلق الأزمة، بل كشفتها.

كشفت هشاشة البنية الإدارية، وفساد التخصيص، واستغلال المعاناة في الخطاب السياسي.

فالحكومة التي تُنفق على المؤتمرات والولاءات، تعجز عن شراء محلولٍ لمريضٍ في دنقلا.

هذا هو جوهر الانهيار: حين يتحوّل الإنسان من غاية الدولة إلى وسيلةٍ لتجميل فشلها.

تقرير الجزيرة لم يكن مجرد قصة، بل وثيقة.

ففي بلدٍ يُحاصر فيه الصحفيون ويُمنع التحقيق في الفساد، أصبحت الكاميرا أداة مقاومة، تُعرّي الخطاب الرسمي وتعيد للناس صوتهم.

لكن المفارقة أن الحكومة لم تردّ حتى الآن على هذا التقرير، وكأنها لم ترَ أو تسمع.

تجاهل كهذا يعني شيئاً واحداً: أن حياة المواطنين لم تعد ضمن أولويات الحكم، وأن السلطة تعتبر الموت خبراً عادياً، لا يستحق البيان ولا العزاء.

ما يحدث في دنقلا ليس سوى فصل من فصول الموت المجاني الذي يعمّ البلاد.

يموت السودانيون بصمت: من الجوع، من المرض، من القصف، ومن الإهمال الإداري.

وكلما خرجت الكارثة إلى العلن، قابلتها الحكومة بصمتٍ بارد وكأنها تتحدث عن بلدٍ آخر.

لقد تحوّل السودان إلى خريطةٍ من الأوجاع المتناثرة،

ومرضى الكُلى في دنقلا هم مجرد رمزٍ لهذا الانهيار الأخلاقي والسياسي.

إنهم يواجهون الموت بشجاعة، بينما تختبئ الحكومة خلف البيانات.

في بلدٍ أنهكته البنادق، صار الإهمال سلاحاً آخر، أشدّ خطورة.

فهو لا يُحدث ضجيجاً، لكنه يقتل بهدوء.

يقتل بالانتظار، وبالطوابير، وبالأسعار، وبالعجز.

وما لم تُدرك السلطة في بورتسودان أن مسؤوليتها الأولى هي حماية الإنسان، فإنها تفقد حتى مبرر وجودها.

الشرعية لا تُمنح بالبيانات، بل تُكتسب من القدرة على حماية أرواح الناس.

وكل حكومةٍ تفشل في ذلك، مهما ادّعت الوطنية، لا تختلف في جوهرها عن آلة الحرب التي تدّعي محاربتها.

علي الهامش

مشهد مريض الكُلى في دنقلا ليس صورةً عابرة، بل صرخة في وجه الضمير الوطني.

فالإنسان هو آخر ما تبقّى من معنى الدولة.

وحين يُترك ليموت في صمت، تُعلن الدولة إفلاسها الأخلاقي قبل إفلاسها الإداري.

ما لم تُدرك حكومة بورتسودان أن الكرامة تبدأ من سرير المستشفى لا من مقاعد السلطة،

فإنها لن تحكم سوى الأطلال.

فالسودان لا يحتاج إلى “دعوات للعودة”، بل إلى دولة تعود إلى مواطنيها.

إلى دولةٍ تعرف أن إنقاذ مريضٍ واحد،

أشرف من ألف مؤتمرٍ عن الحرب لا يطعم جائعاً ولا ينقذ روحاً

Share This Article